قصة قصيرة “رحلة سنين”
“امير الداغستاني “
منذ الصبا كان يراودني هاجس الابداع والتميز، مازلت أحتفظ بكل ما دونتهُ من كتابات متواضعة كنتُ أشعر أنها تضاهي ما يكتبهُ كبار الأدباء، على الرغم من كثرة الاخطاء التي تتخللها وعدم تنسيق الجمل وسذاجة التعبير، كنت اقرأ كل ما اكتب لأمي (رحمها الله)، التي كانت تفرح كثيرا وتشجعني وتقول (الله شگد حلوة كتاباتك) كونها امرأة أمية لاتقرأ ولا تكتب، كانت لكلماتها البريئة عامل تشجيع يحفزني ويدفعني إلى الكتابة اكثر لأوهم نفسي إنني كاتب حقيقي من الطراز الممتاز.
كنت أحرص على كتابة يومياتي بقلم الرصاص الذي ابرده بشفرة والدي بعدما كان يحلق ويرميها بسلة المهملات، وكم جرحتُ اصابعي جراء سوء استعمالها.
في يوم من الايام أهدت لي امي (قلم جاف) اشترته لي من مصروف البيت، كانت فرحتي لا توصف بعد امتلاكي لذاك القلم ، وكأني قد ملكت الدنيا بأكملها، لم اكن استعمله كثيراً الا في كتابة العناوين والخواطر المبعثرة غير واضحة المعنى، كنت أضعهُ في مكان خاص بدولابي الخشبي الصغير حفاظاً عليه.
ازداد تعلقي بالكتابة لاسيما بعد هدية امي ، ومن هنا بدأ مشواري الحقيقي مع الكتابة ، إذ كنت أحرص يومياً على تدوين كل مايصادفني في دفترٍ صغير كتبتُ على صفحته الاولى اسمي بشكل جميل كما كان يبدو لي ، كنت اعتقد بأني انموذجاً للصبي المثالي المثقف الذي ينافس الكبار بكتاباتهم رغم جهلي بقواعد اللغة العربية وركاكة ما اكتبه .
إن اجمل ماكتبته ، عن قصة كفاحي هي رحلتي مع الحياة .
وانا في سن صغير كنت اعمل في العطلتين الربيعية والصيفية وايام الجمع لاكسب المال كي اكمل دراستي ، فقد كان والدي موظفاً حكومياً بسيطاً بالكاد يكفي راتبه المتواضع متطلبات أسرتنا الكبيرة والتي عانت ما عانت من شظف العيش مثلها مثل بقية الأسر البغدادية الفقيرة .
وعلى الرغم من صغر سني كان هاجس التفكير بالحياة وصعوبتها يلاحقني ، لكن هذه المعاناة لم تمنع من حبي للموسيقى والاستماع إليها ، اذ كانت سلوتي الهادئة التي أركن لها للترويح عن نفسي مقابل ما اعاني في حياتي القاسية، كان صوت الاسطورة فيروز التي عشقتها منذ الصغر يجعل من حياتي ربيعاً كلما سمعته ، كان يزداد تعلقي بذلك الصوت الشجي العذب كلما تقدمتُ بالعمر .
اذكر حينما دخلت المدرسة الثانوية ، التي كانت بعيدةً عن منزلنا وكنت اضطر لركوب بـاص “شليمون المسيحي” الرجل الطيب الذي كان يقلنا بسيارته النفرات (فورد زرقاء اللون) إلى المدرسة كل صباح ، كنت استمع لصوت فيروز من خلال مذياع باصه ، استمتع وانسى معاناتي مع الحياة وكاني أحلق عاليا فوق الغيوم الرمادية التي تتلبد بها سماء مدينتي في يومٍ شتائي بارد .
اعجبتُ بفتاة بعمري، كنتُ اراها كل يوم وهي ذاهبة إلى مدرستها بالاتجاه المعاكس ، فتاة جميلة ، بيضاء البشرة ، ذات شعر اسود قصير ، وعيون سوداء واسعة ، حينما كنت أنظر إليها من بعيد باعجاب تبتسم بحياء وتحمر وجنتاها من شدة الخجل ، كنت استمتع بتلك اللحظات وانتظرها بشغف .
تخرجت من الدراسة الثانوية بعد معاناة وجهد سنين ، توفي والدي وصعبت حياتي اكثر، وهنا لابد من الاعتماد على نفسي كلياً ، كافحتُ عبر معاناة طويلة لأكمل دراستي الجامعية ، وقتها كان قد تم استدعائي لخدمة “العلم” إذ كان الوطن يمر بحرب ضروس ادخلنا فيها حاكم ظالم مجبرين ، بعد ثماني سنوات اكملت خدمتي العسكرية وخرجت من تلك الحرب دون ان اصب باذى ، لكنني فقدت الكثير من اعز اصدقائي واقاربي باعمار مختلفة ، منهم من خلَّف ايتاما واراملَ، ومنهم من حرق قلب أمه برحيله .
تزوجتُ في ظروف صعبة حالي حال جيلي من الشباب الذين ذاقوا الأمرَّين في حقبة نظام مستبد ، كنت وقتها اعمل في اعمال مختلفة كي اعيل اسرتي، بعد ان رفضت التعيين بسبب الرواتب الشهرية الضعيفة مقابل غلاء المعيشة، إذ كان البلد يعيش تحت وطأة الحصار الذي أكل الأخضر واليابس من حياة اغلب العراقيين، ومع كل تلك التعقيدات الحياتية لم أترك الرياضة التي كنت اواضب على ممارستها واشترك في سباقات على مستوى عالٍ على الرغم من صعوبة السنين التي واجهتها ، فضلا عن اهتمامي الكبير وحرصي لاقتناء جريدة رياضية يومية اقرأها كلمة كلمة واحيانا اعيد قراءتها مرتين .
أتذكر وانا في الصف الثالث ثانوي كنت امشي مسافة طويلة للوصل إلى مكتبة الحاج “مالك” لاحصل على جريدة رياضية يومية لمتابعة اخبار منتخباتنا الوطنية المختلفة، ظل هاجسي في متابعة الاخبار وكيفية كتابتها ، طورت كتاباتي وكنت احاول مراراً وتكراراً امرن نفسي على كيفية كتابة الاخبار والتقارير الرياضية من خلال ما اقرأ في الصحف التي اقتنيها ، كما لم انقطع عن كتابة القصص والخواطر والاشعار ونصوص الغزل ، حتى سنحت لي الفرصة لادخل المجال الصحفي بمساعدة اخي الكبير الذي سبقني بسنوات طويلة اذ كان يعمل صحفياً في عدة صحف عراقية ، بدأتُ اكتب الاخبار واسلمها له لينشرها لي بين فتراتٍ متباعدة بحكم علاقاته مع زملائه الصحفيين ، وكم كانت فرحتي كبيرة كلما تنشر لي الاخبار حتى وإن كانت قصيرة وفي أسفل زاوية احدى صفحات الجريدة الداخلية.
يوما بعد آخر زاد طموحي وبدأتُ اكتب، وسنحت لي فرصة العمل كمراسل في قناة TRT ، ووكالة انباء جيهان التركيتين بحكم اجادتي للغة ، في غضون ارتفاع شدة التوتر بين الحكومتين العراقية والامريكية وكان ذلك قبل اندلاع الحرب باشهر حينما كانت القنوات العربية والاجنبية تتوافد لتتخذ مقرات لها في بغداد لنقل الاحداث الساخنة اول بأول من مكان الحدث ، استمر عملي مع الفضائية والوكالة التركية حتى احداث 2003.
بقيت مستمراً بالعمل معها في اخطر مرحلة مرت بها بغداد بشكل خاص والعراق على وجه العموم ، اذ تعرضت حياتي للخطر مراتٍ عديدة وكدت افقدها لولا لطف الله ورعايته.
ومع كل تلك الظروف الصعبة ، لم انسَ حبي للصحافة الورقية التي كانت ومازالت تسحرني ، لتسنح لي فرصة حقيقة بعد افتتاح مقرات لصحف عراقية جديدة في العاصمة بغداد ، لاعمل محرراً رياضي في صحف عديدة ، تواصلت بعملي معها وبقيت مستمرا احقق النجاح مع اي مؤسسة صحفية اعمل بها ، حتى تسلمتُ مسؤوليات مختلفة في صحف رياضية عراقية “مدير قسم ، سكرتير تحرير ، مدير تحرير ” ، ومناصب مهمة اخرى بمكاتب اعلام اتحادات واندية رياضية ، ثم انتقلت للعمل في فضائيات عراقية كمقدم ومراسل وتحديداً بعد انسحاب القناة التركية ومغادرتها العراق ، لأترك بصمة واضحة في وسائل الاعلام العراقية .
امضيت سنوات طويلة وانا اعمل في المجالين الصحفي والاعلامي ومازلت اواكب عملي رغم غلق اغلب مقرات الصحف بعد دخول العولمة والتطور التقني والانترنيت والموبايلات وانتشار منصات التواصل الاجتماعي ، لتكون الصحف الورقية من الماضي بعد ان اغلقت 90٪ منها ، فبقيت بعيداً عن معشوقتي بعد الهجمة الالكترونية المتطورة التي غزت المجال الاعلامي ، وعلى الرغم من ذلك التطور قررت البقاء باطار الاعلام رغم تراجع مدخولها المادي ، فلجأت للعمل في الصحف الالكترونية ووكالات الانباء وبعض المؤسسات الرياضية التي حرصتْ على دعوتي للعمل معها اعتزازاً بالمهنية التي امتلكها.
اخيراً لم اندم لفقدان عملي في الصحف التي عملت بها رغم انها كانت جزءاً لايتجزأ من حياتي ، وذلك لانني تركت خلفي ارثاً ادبياً وصحفياً واعلامياً وانسانياً ستذكره الاجيال من بعدي كالذين سبقوني وغادروا الحياة .